آه كم أشتاق لك جدتي .. لا زال طيفك يملأ السمع والبصر ، رغم مرور سنوات على فراقك ، والتحاقك بالرفيق الأعلى إلاّ أن حضورك لا يزال قوياً جداً في حياتي .. أتذكر أنني حين فتحت عيني للدنيا وجدتك أمامي ، تجمعين عليك ثيابك ، وماء الوضوء يتقاطر من محياك ، لا أدري أيهما كان أكثر بريقاً ، وجهك أم قطرات الماء المتساقط منه .. وكان لقاؤنا قبل ذلك بمدّة .. حدثتني جدتي أن أول يدٍ استقبلتني حين خرجت من عالم الرحم إلى العالم الرحب كانت يدها ، فهى – ولا فخر – التي تولت توليد والدتي ..إيهٍ أيتها الجدة سأظل دوماً أحنّ لتلك اليد وأشتاق إليها.
رحمك الله جدتي ، ما أكثر مواقفي معك وذكريات لا تنسى ، قد أنسَ مواقف وأحداثاً إلا ما يتعلق بجدتي ، يبقى عصياً على النسيان ، أبيّاً عليه .
كانت رحمها الله صاحبة طاعة ، ومدمنة عبادة ، حيثما استيقظت من الليل وجدتها إما تتوضأ ، وإما تصلي ، وأما النهار فتصلي أوله في المسجد القريب من بيتنا بأ سمرا ، نخرج في جنح الظلام بالكاد نتحسس الطريق ونتلمس الجدر حتى نصل ، أتذكر أنها كانت - رحمها الله -تصطحبني وأنا دون السابعة ، نصلي الفجر ونبقى في المسجد نذكر الله ، ثم يأتي الأهالي بعد الشروق ببراد الشاي ومعه شئ أشبه بالخبز .. كم كان طعمها محبباً ! تتعاقب الأسر على تحصيل الأجر من خلال توفير هذا الإفطار المتواضع ..نبقى في المسجد إلى أن ترسل الشمس خيوط النورالأولى ، فنعود محفوفين بجلال الطاعة وجمال الصباح .
كانت جدتي -ر حمها الله - نور الدار ومصباح البيت .. تصلي الضحى وتبقى في مصلاها تذكر الله ، تدير السبحة على يدها ، وتتمتم بالتهليل والتسبيح إلى أن يدخل وقت صلاة الظهر فتبقى متنقلة بين النفل القبلي والفرض والسنن البعدية ، خافضة رافعة ، ساجدة راكعه .. لم تكن جدتي تملّ الصلاة والذكر أبداً ، أو تسأم العبادة والطاعة ، بل كان عامّة يومها تقضيه بين القربات .. لم تكن جدتي - رحمها الله - متعلمة ، ولكنها كانت تحفظ قصار السور ، وسورة ياسين ، لا تفتر من قراءتها ، فقط كنت أراها صامتة ساكتة إذا كانت تنصت للمسجلة تسمع قرآناً أو شريطاً مسجلاً بصوت ابنها الأستاذ محمود الذي كان داعية ومعلماً ، قاد التصحيح والدعوة والتعليم في أواخر الستينات إلى أن توفاه الله أول التسعينات – رحمه الله -..أتذكر كم بكته حين مات ، وما أشدها من مرارة حين يموت الولد قبل الوالد ، بقيت سنوات لا يرقأ لها دمع .. تراه في كلّ شئ ، وتسمع صوته مع كل وعظ ، وخطبة ، ودرس .
كانت جدتي - رحمها الله - تقدمني على كلّ أحفادها ، وتحبني أكثر مما تحبّ غيري ، وعلاقتي بها لم تكن علاقة عادية ، بل كانت من الحميمية بكان ، ضحكنا سوياً ، وبكينا سوياً ، فرحنا وترحنا ، كم تحدثنا وتسامرنا ، إيهٍ ياجدتي .. كان لي معها رحلة لا تنسى ، قطعنا فيها فيافي وقفاراً ، وواجهنا فيها كل صنوف الخطر الذي يمكن أن يتصوره إنسان ، فمن الموت برصاص الثوار ، إلى الفرار من قطّاع الطرق ، وعاديات الوحش ، وحرارة صحراء لا ماء فيها ولا ظلّ ، ليالي وأيام ونحن نسير ليلاً ونحاول النوم نهاراً ، نقتات على ما بالكاد يقيم الأود ، وقد أخذ منا شوك الصحراء كل مأخذ .. كانت أياماً لا تنسى ، وكنت أبث شكواي لجدتي ، فأجدها أرحم ما تكون ، وأحنّ ما أنت واجد من البشر ، أعترف الآن أنني فقدت شيئاً لا يمكن تعويضه .
كانت جدتي - رحمها الله - حصناً حصيناً من سورة الوالد وغضبه ، كنت أتخذها (فيتو) أرفعه إذا غلبت الروم ، وانقطعت الأسباب ، وسدت السبل ، ولا أجد أبلغ مما قال شوقي في وصف الحال :
لي جدَّة ترأفُ ** بي أحنى عليَّ من أبي
وكلُّ شيءٍ سرَّني ** تذهب فيه مَذهبي
إن غضبَ الأهلُ علـــــيَّ كلُّهم لم تغضبِ
يمشى أَبي يوماً إليــــــيَّ مشية المؤدِّبِ
غضبانَ قد هدَّدَ بالضرْب وإن لم يَضرِبِ
فلم أَجِد لي منهُ غيرَ جَدَّتي من مَهرَبِ
فجعَلتني خلفَها أنجو بها ، وأختبي
وهْيَ تقولُ لأَبي بِلهجة المؤنِّبِ:
ويحٌ لهُ! ويحٌ لِهـ ـذا الولدِ المعذَّبِ!
أَلم تكن تصنعُ ما يَصنعُ إذ أَنت صبي ؟!
رحمها الله ، حين مرضت فبقيت في المستشفى أياماً أظلم كلّ شئ في الدار ، وفقدها مصلاها وسجادتها وملحفة صلاتها .. فقدها الحي والناس ، بل حتى جدار الدار ، وبقينا أياماً لم ندرك أن الله كان يهيئنا لغيابها .. ذهبت الى المستشفى فأخبروني أنه يمكن أن أذهب بها إلى البيت ، كنت أظنّ أنها شفيت ، أخذتها وهى تدعو لي كما عودتني ، وكانت دعوتها الدائمة ما معناه : جعلك الله فوق كثير من خلقه ، كما جعل السمن طافياً فوق الماء .. أنار الدار أياماً ثم ..
ثم .... ثم ... ماذا تنتظر ؟
أما أنا فلو كنت أستطيع أن أكمل لفعلت .. ولكن .... عذراً أيها القارئ الكريم ، كلّ ما أستطيع أن أقول : رحمك الله جدتي ، وجعلك فوق كثير من أهل الجنة ، كما جعل السمن طافياً فوق الماء .